انهيار الأنظمة العربية- نتائج انتخابية زائفة وواقع متصدع

لطالما كان انهيار نظام بشار الأسد، احتمالًا واردًا في الأفق السياسي، وذلك لأسباب جمة تتصل بفقدانه أسس البقاء الذاتي، واعتماده شبه الكلي على تحالفات إقليمية متغيرة وسياقات خارجية لا يمتلك زمام التحكم بها، بل كان الحلقة الأضعف فيها.
إلا أن "طوفان الأقصى" وتداعياته المتصاعدة، قد وضع هذا الانهيار على مسار التحقق الوشيك، بل ربما بصورة أسرع وأكثر سلاسة ممّا كان يتوقعه أي طرف، سواء من داخل أروقة الحكم أو في صفوف المعارضة.
لقد هوى نظام عائلة الأسد، وترنّح عرش بشار بعد عقود طوال، ذاق خلالها الشعب السوري، و"ضيوفه" من الإخوة العرب والمسلمين، أشد أنواع القمع والتدمير والقتل، وعانوا أيضًا قسوة العيش وضنك الحياة، وتدهورًا شاملًا في كافة الخدمات العامة، حتى غدت حياتهم جحيمًا لا تطاق، لولا صبر السوريين وجَلَدهم.
ورغم كل هذه المآسي، وذلك الكم الهائل من الاستبداد الذي كابده الشعب السوري الأبي، كان الرئيس المخلوع بشار الأسد يُجري انتخابات تشريعية ورئاسية، ويفوز فيها بنسب خيالية تقارب الإجماع، في مسرحية انتخابية خالية من أدنى معايير النزاهة والتعددية والشفافية.
فقد أعلنت اللجنة العليا للانتخابات، التابعة للنظام، فوز بشار الأسد الكاسح في آخر انتخابات رئاسية جرت عام 2021 بنسبة 95.1%، بينما اكتسح مرشحو حزب البعث وحلفاؤه، في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، أغلبية مقاعد البرلمان، وبنسب عالية في الانتخابات التشريعية التي أُجريت في شهر مايو/أيار 2024.
يثور التساؤل: ما السر وراء انهيار أنظمة عربية يحقق مرشحوها فوزًا ساحقًا في الانتخابات؟
نتائج انتخابية زائفة لا تعكس الواقع
يشير التاريخ القريب إلى أن نهاية أنظمة عربية عدة كانت على مقربة زمنية شديدة من لحظة إعلان فوزها في الانتخابات. ففي عام 2009، أعلن زين العابدين بن علي، الرئيس التونسي الأسبق، فوزه في انتخابات رئاسية لم يكن يحق له الترشح فيها، لولا التعديل الدستوري الذي أقره برلمانه المطيع.
إذ أعلنت وزارة الداخلية، وهي الجهة المشرفة على الانتخابات آنذاك، فوز الرئيس بن علي بولاية رئاسية خامسة، بنسبة 89.62%، في حين حصدت قوائم مرشحي حزبه، التجمع الدستوري الديمقراطي، نسبة 75% من مقاعد البرلمان في انتخابات تشريعية متزامنة مع الانتخابات الرئاسية.
كان المشهد التونسي في عام 2009 يوحي بأن نظام بن علي قد أحكم قبضته على الدولة والمجتمع والإدارة، وأن قاعدته الشعبية راسخة وداعمة له في كل الاستحقاقات. لكن لم يمضِ عامان حتى اندلعت الشرارة الأولى لثورة الحرية والكرامة في ولاية سيدي بوزيد، تلك المدينة المهمشة في قلب تونس، إثر إقدام الشاب محمد البوعزيزي على إحراق نفسه، احتجاجًا على ما اعتبره "حُقرة" (إذلالًا واستهتارًا) من قبل النظام، واعتداءً من البلدية التي صادرت عربته، ومنعته من بيع بضاعته، وهي مصدر رزقه الوحيد.
حدث ذلك في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 2010، وسرعان ما اتسعت رقعة الاحتجاجات لتشمل كامل البلاد، وتحولت إلى مواجهات دامية مع قوات الأمن التي أطلقت الرصاص الحي، مما أسفر عن سقوط العشرات من الشهداء والمئات من الجرحى.
بحلول الرابع عشر من يناير/كانون الثاني عام 2011، أعلنت قناة الجزيرة نبأ مغادرة الرئيس بن علي وعائلته الأراضي التونسية، لتنتهي بذلك حقبة نظام حكم تونس لثلاثة وعشرين عامًا، وكان يظن قادته، حتى عام 2009، أنهم سيواصلون حكم البلاد لعقود قادمة، عبر توريث الحكم للأبناء، وربما للأصهار، بعد أن توهموا أنهم امتلكوا مفاتيح السلطة إلى الأبد.
إن ما جرى في تونس بقيادة زين العابدين بن علي ليس ببعيد عما حدث في الجزائر مع عبدالعزيز بوتفليقة، عندما انطلقت حركة احتجاجية مدنية واسعة ضد ترشحه لولاية رئاسية خامسة، رغم مرضه الشديد الذي أقعده عن ممارسة حياته الطبيعية، فضلًا عن تحمل أعباء حكم بلد مثل الجزائر بتعقيداته وتحدياته.
انتُخب الرئيس بوتفليقة لأول مرة عام 1999، ثم أُعيد انتخابه لولاية ثانية عام 2004 بنسبة 90.42%، وخلال هذه الولاية، قام بتعديل دستوري عام 2008 يقضي بإلغاء تحديد عدد الولايات الرئاسية باثنتين، على الرغم من الانتقادات الواسعة التي أبدتها قوى المعارضة، والتي رأت في هذا التعديل مدخلًا لحكم مدى الحياة.
لم يكن هذا الاعتراض على التعديل الدستوري بعيدًا عما آلت إليه الأوضاع لاحقًا، إذ أُعيد انتخاب الرئيس بوتفليقة، على الرغم من مرضه الشديد جراء إصابته بجلطة دماغية، لولاية ثالثة في أبريل/نيسان عام 2014، بنسبة أصوات تجاوزت 70%، أمضاها مريضًا غائبًا أو مُغيَّبًا عن إدارة شؤون الحكم، مما فتح الباب لشقيقه ورموز نظامه ليحكموا باسمه من خارج مؤسسات الدولة، ومن دون أي شرعية تذكر.
على الرغم من التداعيات السيئة والنتائج الوخيمة للولاية الثالثة لبوتفليقة، الذي أصبح غائبًا تمامًا عن المشهد السياسي إلا من خلال صوره ومقاطع فيديو قصيرة لمقابلاته النادرة التي كان يعرضها التلفزيون الجزائري بين الفينة والأخرى، فقد أصر المقربون من الرئيس "المريض" على ترشيحه لولاية خامسة في انتخابات عام 2019.
كان حرس النظام يطمئنون أنفسهم بأن الأوضاع تحت السيطرة، وأنهم يمسكون بزمام الأمور، ويتحكمون في كل التفاصيل، بما لا يترك مجالًا للمنافسة أو للمفاجآت. لكن مجريات الأحداث وانطلاق الحراك المدني والسياسي الواسع الذي ملأ الساحات العامة لأشهر طوال أطاحت بأحلامهم، وكشفت عن مدى انفصالهم عن نبض الشارع الجزائري، الذي ظل يختزن الرغبة في التغيير لعقود، بعد خيبة مرارة التسعينيات، وبعد أن مرت أمامه، وليس بعيدًا عنه، موجة الربيع العربي الأولى عام 2011.
انطلق الحراك الشعبي من مدن العمق الجزائري في شهر فبراير/شباط عام 2019، ليتخذ بعد ذلك منحًى تصاعديًا في الشعارات والمطالب، ويتجه نحو العاصمة الجزائر، التي امتلأت ساحاتها وشوارعها لأشهر عديدة، مما فرض على المؤسسة العسكرية التدخل في محاولة لاحتواء الموقف.
وعلى عكس الحالتين السورية والتونسية، تدخل الجيش في الجزائر لحماية النظام وضمان استمراريته، وذلك بالتخلي عن بوتفليقة وحاشيته، المعلنة وغير المعلنة، وفتح المجال لجيل جديد من القيادات بخطاب وأجندة ورموز جديدة.
ومرة أخرى، وفي اللحظة التي كان فيها نظام بوتفليقة يستعد لولاية خامسة، انهار كل شيء، وطُويت بالكامل حقبة عقدين من الزمن، وأصبحت النسب العالية التي حصل عليها في الانتخابات السابقة لا قيمة لها في الواقع.
وكما قال العلامة ابن خلدون، إذا كان التاريخ في ظاهره مجرد أخبار، فإنه في جوهره تمعن وتحقق. إلا أن العديد من الحكام العرب المعاصرين لا يبدو أنهم قد اتعظوا وأخذوا العبر لتجنب المصير "المحتوم" نفسه. فلا يزال بعض الحكام العرب ينظمون انتخابات مُهندَسة ليحققوا فيها فوزًا كاسحًا، وليأتوا ببرلمان موالٍ وخاضع، لا مكان فيه للمعارضة ولا للشفافية.
تتمسك هذه الأنظمة بكل خيوط اللعبة السياسية، وتتصرف في كل مؤسسات الدولة ومقدرات الإدارة في إقصاء تام للمعارضة، وتغييب شامل لقوى المجتمع المدني، وتدجين كامل للإعلام العمومي والخاص، وهي نفس الحالة التي كان عليها نظام بشار الأسد قبل فترة وجيزة من بداية تحرك المعارضة المسلحة وزحفها نحو أهم المدن السورية وصولًا إلى العاصمة دمشق.
لم تستغرق هذه المسيرة أكثر من اثني عشر يومًا، كانت كافية لإسقاط نظام حكم أكثر من خمسة عقود بقوة السلاح والقمع، وبسردية كاذبة ومضللة، عنوانها الفوز الانتخابي الساحق والمتكرر.
ثورات الربيع العربي: نداء للتغيير والإصلاح
اندلعت ثورات الربيع العربي في موجتها الأولى عام 2011 ضد هذا النموذج البالي للحكم العربي، سعيًا لتغيير الأوضاع نحو الديمقراطية، واستعادة السيادة للشعوب، وحصول المواطن العربي على حريته وكرامته وأمنه في وطنه.
صحيح أن انتكاسة ثورات الربيع العربي كانت سريعة، بعد أن تم إفشالها وتحويل مساراتها إلى حروب أهلية، أو عبر عمليات تصفية دموية، ولم تصمد منها سوى التجربة التونسية التي مثلت استثناءً ناجحًا في تحقيق العديد من المكاسب على مستوى الديمقراطية والحريات والحقوق، وذلك قبل أن يتم إجهاضها هي الأخرى بانقلاب 25 يوليو/تموز عام 2021.
اليوم، تعود ديناميكية الثورة العربية من جديد عبر البوابة السورية، التي ظل فيها المخاض الثوري في حالة غليان لأكثر من ثلاثة عشر عامًا بين الكر والفر، إلى أن حانت اللحظة المناسبة التي انتصر فيها منطق التاريخ على مغالطات نظام الأسد، وتغلبت فيها إرادة التغيير لدى الثوار على أدوات حكم جوفاء، وعلى أشباح في ثياب جنود بلا عقيدة وبلا روح.
يؤكد التاريخ بلا مواربة أن الحكم "الرشيد" يقوم على مجموعة من الشروط، فإذا تحققت قامت دولة الشعب لخدمة الشعب، وإذا غابت تحول الشعب إلى خادم لدولة الفرد أو العائلة أو الحزب.
في دولة الشعب، تستمر الدولة ويتعاقب الحكام عبر منافسة انتخابية شفافة وتداول سلمي للسلطة. أما في الحالة الأخرى -وهو واقع العديد من دولنا- فيُستعبد الشعب، وتُستنزف قدراته ومقدرات بلاده، وتُكمّم أفواهه، ويُفرض عليه بالقوة التعايش مع سرديات مزيفة ومغلوطة.
ومع ذلك، يظل الشعب يختزن الظلم ربما لعقود، إلى أن تحين اللحظة المناسبة لينفجر وينتفض لاستعادة دولته المغتصبة وإرادته المسلوبة، وعندها تنكشف الكذبة الكبرى والمفارقة الصارخة بين ما كان يُعلن عنه من نتائج ساحقة في انتخابات صورية ومشهدية لا معنى لها ولا تعكس الواقع، وبين الهوة الواسعة والعميقة التي تفصل الحكام، الذين أعلنوا فوزهم الذاتي، عن شعوبهم، حتى لا يجد هؤلاء الحكام من ينصرهم أو يدافع عنهم، فيتسللون خارج بلدانهم خلسة تحت جنح الظلام، بعد أن ظنوا أنهم هم الباقون، وأنهم ليسوا في حاجة إلى شعوبهم، طالما أن لهم من يحميهم من قوى إقليمية ودولية، ضمن معادلات تخدم مصالح هذه القوى التوسعية.
أوهام السلطة: قصص زائفة وواقع مشوه
تكمن مشكلة هذا النوع من الحكام في أن تركيبتهم النفسية غير السوية تمنحهم قدرة هائلة على تصديق روايات نسجها هوسهم بالسلطة، وهم يعلمون أنها كاذبة ومغلوطة، لكنهم يظنون أن الشعوب غبية بفطرتها، وأن العصا الغليظة كفيلة بإغلاق كل منافذ الوعي والإدراك أمامهم.
يكمن الخطر الأكبر لدى هؤلاء الحكام في أنهم يقمعون أي صوت معارض، ويعمدون إلى إسكاته بكل الوسائل القمعية، مما يفوت عليهم فرصة الانتباه إلى وضعهم الحقيقي، وذلك بإخماد كل صوت ناصح، فتتواصل غفلتهم حتى اللحظة التي تتحول فيها أصوات النصح إلى هدير صيحات الثوار، وأزيز الرصاص ودوي المدافع، وعندها ينتهي كل شيء، ولا يبقى مجال للتدارك.
إن مصير هذا النوع من الحكام العرب بات محتومًا، لأنهم يفعلون كل شيء لكي يؤول مصيرهم إلى نفس النهاية التي انتهى إليها أسلافهم، لقد راهنوا على نتائج انتخابية مرتفعة في الأرقام، لكنها فارغة في الواقع، واعتمدوا على روايات وشعارات لا أساس لها، ولا تأثير إيجابي لها في حياة شعوبهم، واستندوا إلى سياقات وتحالفات لا يسيطرون عليها، بل تستخدمهم ولا يستخدمونها، واختلقوا أعداء وهميين من أبناء جلدتهم، للتغطية على عجزهم الفاضح في مواجهة التحديات الحقيقية التي تواجه شعوبهم، مثل الفقر والبطالة والتبعية وتدهور مستوى المعيشة.
ولعل أبلغ تعبير عن علاقة الشعوب بحكامها من أمثال من ذكرنا هو هتاف التونسيين في السادس من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1987 للرئيس بورقيبة "بالروح، بالدم نفديك يا بورقيبة"، ثم تحوّل هتافهم بعد يوم واحد فقط، في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1987، للرئيس التونسي الجديد زين العابدين بن علي "بالروح بالدم نفديك يا بن علي"، فـ"الله ينصر من صبح"، كما يقول المثل التونسي.
إن هذه الأنظمة الزائفة "كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" (قرآن كريم)، لأنها اتخذت أولياء من دون شعوبها، وجعلت نفسها في منزلة أعلى من شعوبها، لا تُسأل عما تفعل، وهي تُسائل وتُعاقب.
فهل تكون الثورة العربية في موجتها الثانية، الأكثر تطورًا ونضجًا من الأولى، بداية النهاية لهذه الأنظمة الهشة، على الرغم من مظاهر القوة الخادعة، التي لا تصلح ولا تُصلح، خاصة بعد أن تعمدت ارتكاب كل الموبقات لقطع الطريق أمام التغيير عن طريق الانتخابات والتداول السلمي للسلطة؟